“TUL8TE”على مسرح دقة: الغناء مرآة  الإعتراف والحنين

بقلم تقوى السباعي

اختار مهرجان دقة الدولي تأثيث ثاني سهرات دورته التاسعة والأربعين بحضور الفنان المصري المقنّع « تولييت Tul8te» رفقة فرقته التي اختار أفرادها تقاسم الغموض معه بأقنعة توشّح وجوهم أيضا.

ولا يمكن اعتبار هذا القرار اعتباطيّا، فالهويّة الغامضة فلسفة  تمّ انتهاجها من قبل الفنان ليتّم التركيز على الموسيقى فقط، أي الصوت الذي يُترجم كل ما يُخالج كنينه ويشع به على كل من يتقاسم معه المشاعر ولو بالمخيال.

وبدخول “الفتى المقنع” الى المسرح ازداد فضول  الجمهور  لمعرفة وجهه أو حتى أحد من أفراد الفرقة، لتتصاعد بذلك الأجواء الحماسية ويتوهج بريق الغموض والخفايا التي تحملها الأعمدة الدائرة بالمسرح في طياتها.

لم يتقاسم tul8te مع الأعمدة الأثرية غموضها فقط، بل الجمال أيضا. فصوته المميّز صدح بأرجاء المسرح الأثري وسط رقصات الحاضرين، ليعانق كل قطعة اثرية متواجدة بالمكان و يتمايل معها على زخرفات الزمن، أين سنح القدر لصوت شبابي جديد أن يدغدغ نقشات العراقة و التاريخ.

ووسط كل هذه الأجواء أضفى تغيّر ألوان الإضاءة على المسرح مع تغيّر الأغاني، إحساسا خاصا لامس أرواح  الحاضرين. فالأزرق يعبّر عن حزن الكلمات والسلام، ناهيك عن الوفاء المتبادل بين الجمهور والفنان .وعلى غرار تعبيره على الميثاق البصري لهذه الدورة من المهرجان،فإن لون الأضواء  البرتقالي عبّر عن الطاقة والحماس اللتان غمرتا المسرح، كما دثّر الحاضرين بدلالة دفئه المطرزة بكلمات الأغاني التي اختلفت مواضيعها بين العواطف،الانفصال، الهويّة والصحة النفسيّة.

لا يقتصر نجاح الفنان الملثّم فقط  على أنه شبابي أو لكلمات أغنياته ومواضيعها المذكورة، بل هو الأسلوب غير المألوف، البسيط في ظاهره والمعقد في باطنه.

فقد تنوعت أغانيه بين الهيب هوب والبوب العربي  والراب مع مزيج من تأثيرات الفلامنكو والروك. ليستهل حفله بأغنية “ليه بنخبي ومش بنقول” من ألبومه ” توو ليت” الثاني الذي تم إصداره سنة 2024. وهي أغنية من نوع الهيب هوب/الراب التي أوقدت الشعلة الأولى في السهرة المصرية التي زينها الفنان بكلمات تونسية في مخاطبته للجمهور. أين أبدى إعجابه بتونس بقوله “تونس بلد جميل وبسيط وناس جميلة دايما تضحك في وجهك”. ليتساءل بعدها ان كان في الحضور مصريين ويؤكد أن تونس ومصر بلد واحد متباهيا “مصر وتونس ايه ؟ ما احنا واحد.”

وينتقل بين هذا المشهد وأغنية “حبيبي ليه”  بطريقة سلسلة ومرحة. فيمازح الجمهور “احنا بلد واحد، وأنا عندي سؤال واحد: حبيبي ليه؟”. الأغنية التي صدرت في 25 جويلية 2024 بنفس الألبوم “توو ليت” حاصدة 24 مليون متابعة على قناته الرسمية على اليوتيوب. كما تصدّر بها  المركز الرابع في «Spotify » على قائمة الأغاني التي حصدت أعلى نسب مشاهدة والمطربين الأكثر استماعا  في 2024. ومع بداية الدندنة، أشعل سؤال الأغنية حيرة العاشقين في الصفوف الأمامية، واختلط الحنين بالتصفيق، وكأن كل قلب يبحث عن إجابة في عيني الآخر.

لم يتجاوز العرض الساعة الا ببعض الدقائق، لكنه كان مفعما بالطاقة المتبادلة بين المدارج والركح.  لتتوارى المشاعر أحيانا في لمعة أعين الجمهور ويُطلق لها العنان في صرخاتهم وحركاتهم أحيانا أخرى.

وعندما صدح TUL8TE بـقسم الشكاوي، بدا كأن المسرح تحوّل إلى مكتب اعترافات مفتوح، حيث كل نظرة من نظرات الجمهور كانت تبوح بشكوى، وكل تنهيدة تصطف في طابور الانتظار للإفراج عما كان مختبئا في الظلام الداخلي الدامس. لكن هذا لم يُفتر الطاقة والحماس التي رقص بها الحاضرون ليصبح المسرح مولّد طاقة بشرية خارقة. وعلى غير العادة، فان هذه القطعة الموسيقية الجامعة بين الحنين وتأثيرات الموسيقى الشعبية، هي أغنية منفردة صدرت بعد ألبوم “كوكتيل غنائي” .

وبطريقة كأنها فك لقفل زماني أو إنساني ، زيّن الفنان المصري الركح بالكوفية الفلسطينية معلنا تضامنه مع القضية الفلسطينية لتعلو كلماته ” بما اننا كلنا عرب “Free Free Palestine” ثلاث مرات. ليعود بهذا إلى مهمة الفن الأصلية : توحيد ما يشتته المتسيّسون.

جاء دور أغنية “ما تيجي أعدي عليك”، فانقلب المشهد إلى رقصة صامتة بين المسرح والمقاعد، إيقاعها العيون اللامعة والأكتاف التي تهتز على وقع النغمة، وكأن الأغنية تمرّ بدفء الحنين وخفة الوعد، تلامس الجميع، تطرق أبوابهم  وتترك أثرها خلف كل ابتسامة. واعتبرت الأغنية النجم الساطع لألبوم “كوكتيل” وقت صدوره 24 جويلية  2024 ب18 مليون مشاهدة على اليوتيوب،  ليقوم بعد ذلك بإصدار الكليب الخاص بالأغنية في سبتمبر  2024 محققة 10 مليون مشاهدة تقريبا على نفس المنصة.

ليلة التاسع والعشرون من جوان 2025، لم تكن فقط ليلة حملت فنانا على ركح مسرح دقة، بل كانت ليلة لصوت جيل كامل يلتمس حروف الأغاني في التعبير عن مشاعره وسط صدى الأسوار الرومانية. وليتحول بذلك المسرح من معلم أثري إلى مسرح الحياة ، أين صافحت الكلمات الأرواح،وتجسد TUL8TE في الذكرى التي ستبقى عالقة في ذهن كل من حضر.

تقوى السباعي

الصور بعدسة حسام الدين الطاهري

الكلمات المفاتيح: تووليت – Tul8te – مهرجان دقة الدولي – مصر – تونس