مسرحية التابعة: توفيق الجبالي يطرح تساؤلات وجودية حول ماهية وجدوى الانسان موظفا سحر الكلمة
كلمات تتبعثر من هنا وهناك من أفواه أشخاص تائهين هائمين في بحر من التناقضات والتقلبات والمشاكل التي تفصح عنها ألسنتهم غير مرتبة ومنمقة، متلاصقة لتصبح أحيانا فوضى صوتية.
هذه المجموعة الحاملة لحقائب سفر عليها صور توثق حالات من العنف المجتمعي والعائلي والسياسي، مشهد يحيل المتفرج الى الرحلة التي تنتظره.

بعدسة منصف بن أحمد
تفاصيل نقلت على ألسنتهم – سياسة، تحرش، ثقافة، فردانية، علاقات، أحداث سياسية وقعت في مجتمعنا العليل- في زمن ليس ببعيد- تتنوع المفردات لوصفه وتتعدّد المرادفات لتحملنا إلى معنى الكلمة وروحها ومصدرها. فالكلمة ورغم تفسير المعاجم على تعدّدها تأخذ معناها الحقيقي من وجدان ناطقها، من روحه ومن تجربته…
فها أنا اكتب كلمات تحت تأثير ما شاهدت، كلمات هي ايضا أخذت من وجداني ومعاشي وعُقدي وافراحي وخيباتي…خيبات اتشارك في البعض منها مع الآخر داخل هذا الوطن. خيبات نحملها جميعا مثقلين بها او مثقلة بنا..
فشخضيات التابعة لا يختلفون عنّا في شئ خاصة في هذيانهم من فرط وعيهم بمآسي هذا الوطن والمجتمع الذي أصبحنا عبئ عليه مثله مثل الطبيعة الأم.

هذيان فيه من الحكمة ما يجعلك امام مرآة اجتمعت فيها الكلمة والاضاءة والموسيقى والمؤثرات الصوتية والبصرية والديكور..التقت جميع هذه العناصر مع أداء ممثلين وممثلات انصهروا في بعضهم البعض لتعرية الانسان والمجتمع في جميع حالاته وعلى جميع الاصعدة السياسية والنفسية والمادية والاقتصادية والثقافية فعدّد توفيق الجبالي معظم ان لم تكن جلّها بشكل مزدحم ..وتساءل في كل شئ وفي اللاشئ..

من خلال “التابعة” ظهر المجتمع والانسان في شكل صور مقطعية كاشفة عن الداء او بالأحرى معظم الأدواء التي يعاني منها الانسان الظاهرة والباطنة منها. أدواء منها ما لم يشفى بعد ومنها ما لم يتم التفطن إليها.
حملت المسرحية عنوان “التابعة” وهي عبارة تستعمل في الدارجة التونسية تُحيل الى سوء الحظ وتُرجم العنوان الى “Malédiction” كلمة تحمل نفس معنى “تابعة” في واحدة من تفسيراتها المتوفرة في المعاجم.
فهل الانسان- المليء بكل هذه التناقضات والخيبات والمحمل باحكام مسبقة توارثها جيل بعد جيل دون أدنى تفكير أو إحكام للعقل وتغييب كلي للشك – يعاني من التابعة أم أنّ الجهل وغياب المعرفة جعلت منه تابعا منذ ولادته.
تابعا للعائلة ، تابعا للسلطة، لشهواته ولكل ما جعله ويجعله مكبلا لا يفكرّ.
فالتفكير والتساؤل يجعلان الانسان يسلك طريقا خاصا به وهو ما يخفف وطأة الألم عند الفشل في اي جانب من جوانب الحياة. فالفشل وانت حرّ أقل وطأة وألما من الفشل وانت تابعا،مكبلا ومسيّرا.
لقد اختار توفيق الجبالي وضع المتفرج في وضعية تماهي مع ما يحدث على خشبة المسرح مرتكزا في ذلك على عناصر السينوغرافيا المتكاملة والمترابطة فلا يسعه الا ان ينساب داخل هذه الوحدة الحسية والبصرية فيستمتع فنيا بكل ما يشاهده ويشعر ويفكر ويطرح التساؤلات فيما يخص كل ما قيل وكل ما لم يقل في لحظات الصمت.
فالكلمات غير المنمقة والمتبعثرة والغمعمات الحمالّة للمعنى واللامعنى في نفس الوقت تخفي خلفها كلمات لم يفصح عنها..وهذا ما يعطي للمتفرج مساحة للقراءة والتأويل وخاصة للتفكير.




لم يكتفي توفيق الجبالي بتشريح مآسينا وامراضنا محليا فقد عدّد على لسان شخصياته كل ما مرّ ويمرّ من مُرّ علينا وعلى وطننا ولكن تجاوز الحدود الجغرافية ليعرّي صمت الانسان امام شعب يقتل ويغتصب منذ سنوات…
فمن لم يتجرأ على ذاته ومخاوفه ولم يستطع مواجهة تناقضاته واختار الاكتفاء بغير المكتمل من ثورة الى تعليم الى اعلام الى “نخب” فقدت شرعيتها الى غيرها من المسارات المنقوصة واختار العيش ضمن فكر القطيع المريح ظاهريا لم ولن يستطيع أن يكون سندا للشعوب المضطهدة.
فمن لم يتحرر ولم يحرر ذاته لن يتمكن من تحرير أرض ويكتفي كما اكتفى طيلة سنوات على حمل شعارات وكلمات…كلمات ليست كالكلمات ترّصف جنبا لجنب لتاثيث خطاب يحمل نفس القيمة ان صدر عن الحاكم او المحكوم.



تساءل توفيق الجبالي عبر الكلمة حول ماهية الانسان ومهمته على هذه الأرض، جدوى هذا الكائن، هل استغنى هذا الكائن عن عقله ؟
عبر الكلمة تساءل أيضا حول دور “النخبة” السياسية والمثقفة في تعاطيها مع كل ما حصل وما يحصل.
حمل هذا الهذيان في طياته أحيانا نسيم من الأمل..فالأمل يولد أحيانا من رحم الموت أو المخاض ذأو الرحيل الى عالم آخر او القدوم منه.
فتوفيق الجبالي يخاطب العقل والحواس، يصدم ويزلزل الثوابت او ما يخيل إلينا انها ثوابت لعلنا ننتصر لذواتنا ونتنفس جرعة من الامل لتصبح الحكمة لها مساحة في اذهاننا أكثر من الهذيان…
و لا يمكن إنكار أنّ الهذيان هو شكل من اشكال التطهير والتنفيس الحسي والعقلي للمتفرج.
فهل فقدت الكلمات معانيها ؟ وهل أنّ التواصل أصبح محال والحوار أُفرغ من فائدته لغياب السؤال والتساؤل والحديث ؟ هل حالنا اليوم هو أقصى ما يمكن ان نصل إليه؟ هل حاولنا ؟ هل طرحنا جميع الأسئلة في الوقت المناسب قبل فوات الأوان؟ وهل للأوان أوان فعلا ؟ ام هو مرتبط بلحظة استيقاظنا ودرجة يقضتنا؟
“التابعة” هي عبارة عن متنفس لتوفيق الجبالي المفكر الذي لا يزال يتساءل ويفكر في ماهية الانسان والاشياء دافعا المتفرج الى التساؤل ايضا والبحث عن سر الوجود والتواجد، عن العدم والموت والاستسلام، عن المبتغى من هذا وذاك.
فهل للحياة طعم دون شك وبحث وفكر ؟ هل الاستسلام واللامبلاة والاذعان باستطاعتهم إنقاذ الانسان من ذاته المكبلّة بالخوف والوهان؟ هل نحن فعلا كما كتب توفيق الجبالي “نحن الصورة الأكثر بشاعة في هذا العالم الانقراضي.”؟
الكلمات المفاتيح: التابعة – مسرح – توفيق الجبالي – عروض – فضاء التياترو
مسرح أوبرا تونس يقدّم عرض “لاترافيلتا” في نسخته التونسية في اطار تعاون فني تونسي إيطالي
تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية، يقدّم مسرح الأوبرا عرض”لا ترافياتا” للمؤلف ال…