Home أخبار الساعة بغداد مدينة الحكايات، بغداد عشق لا ترياق له
أخبار الساعة - مهرجانات - 25 أكتوبر 2025

بغداد مدينة الحكايات، بغداد عشق لا ترياق له

تقرير صحفي بقلم مفيدة خليل

“ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا، إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطنا” مقولة لياقوت الحموي هي الأقرب الى الروح، فبغداد ليست مجرد مدينة، بغداد قصيدة، حكاية من حكايات الف ليلة لا تتعب شهرزاد في حكيها، بغداد قبس من الحبّ يزين قلوب العاشقين زرناها بمناسبة الدورة السادسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح فكانت لحظة السحر بالمكان والناس.

 بغداد ارض للحضارة والتاريخ والحكاية، مدينة لا نهاية لحكاياتها واسرارها ومن يدخلها تصيبه لعنة الحب، فاحذروا بغداد ان كنتم ضعاف القلوب لانها تصيب في مقتل، فهي الشامخة الابية ومحبتها لا ترياق لها.

شارع  الرشيد فتنة المعمار  وسحر المتنبي 

ادخلوها بسلام امنين فهي مدينة الحب عبر التاريخ ورغم ندوب الحروب الكثيرة لا تزال بغداد مدينة للعشق، بغداد قصيدة غزل منفلتة من اسوار الزمان، ككل عاشق زائر ستنطلق الرحلة من ساحة حافظ قاضي شارع الرشيد اقدم شوارع المدينة وقلبها الثقافي النابض، عبق التاريخ وثرائه لا يزال واضحا على الشارع، سندخله من جهة جسر الشهداء ونتامّل جمال العمارة والمباني القديمة المحافظة على روحها رغم الحرب والدمار الذي عاشته بغداد لاعوام كثيرة،.

منازل مكونة من طابقين، ميزتها اللون البني وبلكونات صغيرة الحجم، كل البيوت مكونة من طابقين مع عدد من الشلاشيل البغدادية (الشبابيك)، في هذا الشارع الحيوي بعض ملامح المدينة وحكاياتها، اول الشارع من جهة جسر الشهداء تمثال “نصب السلام” هدية مصرف الجنوب الإسلامي الى البنك المركزي العراقي من انجاز النحات خالد المبارك، يميننا منطقة “الصدرية” اين يتربع تمثال “الفرابي” مرحبا بضيوف المكان، اما بقية الشارع فستؤدي الى “المتنبي” شريان المدينة الثقافي.

شارع الرشيد لازالت اسواقه الشعبية مكتظة بالباعة، باصوات الحياة، الجولة في الشارع  عنوانها العودة بالزمن، هنا يمكن ان تنسى الوقت، تغمض عينيك قليلا، تستحضر الماضي وتعود اليه محمّلا بالحنين، بعدها تنطلق في جولتك الان وهنا، في هذا الشارع أول سينما في بغداد “سينما الزوراء” بناء بعلو شاهق لازال يحافظ جزئه العلوي على نقوشه البديعة، الوان الشارع أغلبها تميل الى الرمادي والبني، مزيج من القدم والروح العتيقة في الشارع، هو الذاكرة والتاريخ في الشارع تمثال “عبد الكريم قاسم” وتحته يتحلق الشباب يحتسون القهوة ويتأملون جمال المكان وحكاياته المتدفقة من بين الجدران، في  شارع الرشيد “السوق العربي” وسوق الهرج” هنا بساطة الناس في بيع البضائع والترحاب بضيوف المكان، اما  “الشاي” فهدية للضيف والهدية لا تردّ ويشرب “الجاي” بالطريقة العراقية التقليدية فسيكب في الصحن ويشرب تجنبا لحرارة الكاس، في شارع الرشيد ومن جسر الشهداء الى ساحة المتنبي طول الطريق تلمس ايها الزائر عراقة المكان وبساطة الناس، “التكتك” العجيب اسهل وسائل النقل واسرعها واصوات الباعة تصنع موسيقى مميزة تنسجم أحيانا مع صوت “عمر يوسف يغني “جلجل علي الرمان” فالعراقي يهوى موسيقاه ويسمعها دائما وكانه يقاوم كل أنواع الحداثة بثقافته الموسيقية. .

اخر الشارع تمثال الشاعر معروف الرصافي يقف قبالة جسر الحرية رافعا يده وكانه  يقول:

أرى عيشنا تأبى المنون امتداده

كأنا على كيس المنون نعيش

وما زال وجه الأرض يوسعه ال ردى

لِطاماً وهاتي ك القبور خدوش

 بعد تمثال الرصافي المنجز من قبل النحات إسماعيل فتاح الترك يبدئ الجزء المهيأ من شارع المتنبي ضمن مشروع “نبض بغداد”  اذ تجمل الشارع، بعثت الحياة في محلاته وعماراته مع الحفاظ على طابعها التراثي  والمعماري الأصلي.

   شارع المتنبي قلب المدينة الثقافي، قوس كبير يرحب بضيوف المكان  كتب أعلاه “شارع المتنبي” وتحته بيته الشهير “الخيل والليل والبيداء تعرفني…والسيف والرمح والقرطاس والقلم”  الى اليسار تنتشر الكتب ويتوزع الباعة، ادب روايات علم نفس سياسة دين ومخطوطات نادرة جميعها تغري بالتوقف واستنشاق عطر الكتاب وما تبوح به من اسرار، في هذا الشارع ولدت حكايات عشق البلد، المخطوطات في المكاتب تؤكد عراقة المكان، يتفرع عن الشارع ازقة عديدة وجميعها مساحات لبيع الكتب فكل ما تريد ان تقرأه ستجده في شارع المتنبي حتما .

قبل نهاية الشارع يجلس منهمكا على ورقته البيضاء، بيمناه يمسك قلم الرصاص وباليسرى يتامل صورة البورتريه، الرسام ثامر ” ثامر تكفي لا استحق لقبا” كما قال يرسم الوجوه   ويبدع في اضافة مسحة من الحياة على صوره، حين عرف انني من تونس اهداني لوحة رسمها بخط اليد مع جملة “عيني، معقول تيجي من بلد ثاني وتروحي دون هدية”. “

اخر الشارع يقف المتنبي شامخا امامه المدينة وخلفه دجلة رافعا يمناه قائلا “انا الذي  نظر الاعمى الى ادبي واسمعت كلماتي من به صمم” كل الشارع يزخر بالحياة، تكاد الاحرف المتراقصة تخرج من الاوراق والكتب وتصنع سيمفونية للحضارة والجمال، أسماء   المكتبات مغرية “الحياة” عشتروت” “دار الحضارات” و “الفنون في الحياة”، فالحرف هنا مقدس.

شارع المتنبي  ينبض بالتاريخ ويبوح للزائر بالقليل من حكايات بغداد، هنا العديد من المباني التاريخية على غرار المدرسة العسكرية قديما التي اصبح اسمها المركز الثقافي البغدادي، و “مبنى متصرفية لواء بغداد” وحسب المصادر التاريخية كان المبنى يشغل ففي عهد العثمانيين “مبنى قراءة خانة” أي  المكان الذي يقرئ فيه ويجتمع الناس فيه لعرض مطالعة الصحف والمجلات والكتب، وتحو لت البناية   الى  المدرسة  الرشدية الملكية المدنية عام 1869 وظلت على حالها الى العام 1934 لتصبح مقرا لمتصرفية بغداد وحافظت البناء على جماله المعماري الى العام 2003 اذ تعرضت للحرق والهدم ولم يتبق منها الا اثارها الخارجية وفي العام 2024تم اعادة تاهيل ما تبقى منها ضمن مبادرة “تمكين” والبناء لازال شكله الخارجي ساحرا، لازالت النقوش تزين الجدران الخارجية خاصة الأبواب والشبابيك التسعة الموزعة على طابقين، الملفت زجاج النوافذ بالالوان الزرقاء والخضراء والشلاشيل  المرتفعة مع باب حديدي ضخم يخفي خلف جدرانه حكايات كل من مروا بهذا الفضاء الذي  سيعود الى الحياة مرة أخرى، فبغداد مدينة لا تعرف الهزيمة..

 يقابل موقع متصرفية بغداد  مبنى تاريخي اخر تابع لوزارة الثقافة والسياحة والاثار هو “مبنى القشلة” وكان ديوان للحكومة عام 1851 شيد طابقه الارضي اولا في عهد الوالي العثماني نامق باشا كثكنة عسكرية جنوب السراي، ثم اضيف الطابق الاول في عهد مدحت باشا وفي زمن البريطانيين استخدم كمقر للحكم ولمبيت الضباط وعوائلهم وشهدت حديقة المبنى المطل على دجلة مراسم تتويج فيصل الاول ملكا على العراق في 23سبتمبر 1931 كما اصبحت فيما بغد مقرا للعديد من الوزارات والدوائر الحكومية على غرار وزارة العدل والمعارف ومديرية طابو بغداد ومديرية الاثار القديمة، يتميز البناء من الداخل ببرج الساعة الذي يبلغ طوله 23متر وينتهي بساعة ميكانيكية اهديت عام 1927 للملك فيصل من قبل الملك جورج الخامس ملك بريطانيا ويحكي البرج تاريخ بغداد وعراقتها.

لبغداد الف باب وحكاية والتاريخ يشهد

تمثال معروف الرصافي سيكون النقطة المفصلية، الى يمينه شارع المتنبي وقبالته معلم  تاريخي وثقافي هو المتحف البغدادي والى يساره المدرسة المستنصرية، المتحف البغدادي يقدم للزوار لمحة من تاريخ مدينة بغداد، غرف كثيرة تنقل الزائر الى مراحل تاريخيو وثقافية عديدة من بغداد الحضارة، البناء كان مطبعة لولاية بغداد  واليوم متحف يزوره اهل العراق وزوارها، المتحف جزء من الذاكرة البغدادية ينقل بعض المشاهد من المهن التقليدية مثل “الصفار” و”التنكحي” و”جراح الخشب” و”التتنجي” والألعاب الشعبية  مثل “أبو الفرارات” وحكايات المدينة على غرار قصة بائعة الباقلاء و”ام إبراهيم”، بالإضافة الى حفلات العرس والحضرة والفرق الموسيقية والانماط الفنية البغدادية “الجالغي البغدادي” واشهر شعراء البلاد على غرار تمثال “الشاعر ملا عبود الكرخي البغدادي”،.

في المتحف منحوتات صنعت بحرفية عالية وبعضها أصبح يتحرك بتقنية ثلاثية الابعاد لتبدو وكانها حقيقية والمتحف يزخر بمنحوتات لصانع الحياة الفنان التشكيلي جاسم سكران الذي بعث الحياة في سيارة الملك فيصل حمراء اللون التي تحتل مكانا متميزا بين معروضات المتحف البغدادي.

اما المدرسة المستنصرية فهي على يسار جسر الشهداء وتعد اقدم جامعة عربية إسلامية، بناها الخليفة المستنصر بالله وكانت قبلة للطالبي العلم وتدرس المذاهب الأربعة، المدرسة متحف يزوره الباحثين عن مجد العلوم العربية ولازالت غرفها المائة مغرية بالسؤال عمن جلس في هذه الزاوية؟ واي حلقة نقاش شهدها ذاك المكان؟ فالجدران الموشاة باجمل النقوش لازالت تشد الزائر اليها وتدفعه ليرحل بعيدا بالذاكرة ويستحضر حلقات العلم وتنافس المسلمين على طلب العلم والمعرفة.

التماثيل والمنحوتات صورة أخرى لجمال البلاد

ساحرة هي المدينة، اللون الاصفر في تماهيه مع امتداد السماء وزرقتها يشكل فسيفساء لونية عنوانها التمسك بالارض والعراق هوية ووطنا كما يقول بائع الكتب، اخر شارع  المتنبي يقف تمثالها شامخا، داعيا ضيوف المدينة للوقوف امامها وتامل جمالها وتحياتها وصوتها الجهوري العاشق وهي تكتب:: 

الليلُ يسألُ من أنا

أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ

أنا صمتُهُ المتمرِّدُ

قنّعتُ كنهي بالسكونْ

ولفقتُ قلبي بالظنونْ

وبقيتُ ساهمةً هنا

أرنو وتسألني القرونْ

أنا من أكون؟

ها انا امامك يا نازك اسالك من انا؟ هل انا عاشقة بغداد؟ ام طفلة محبة للتاريخ تبحث بين الاسطر عن تاريخ حفظته عن ظهر قلب، ام مريدة جاءت تبحث عن بقايا الحنين لبلد تزوره لاول مرة ولكنه يسكنها منذ الازل؟ ام انا صوت حبيبك نزار ينعيك ويقول “اليوم اغتالوا القصيدة”، تمثال نازك الملائكة من ابداع النحات فاضل مسير وهو من احدث المنحوتات افتتح عام 2023 حين اختيرت “نازك” رمزا للثقافة العربية، تمثال نازك الملائكة وداعه صعب، شهيدة بغداد من الموجع تركها والمضي قدما ولكن غواية المدينة لا تنتهي ولكل فضاء خباياه فلنكمل الجولة ولنسرق بعض ملامح التاريخ ونزرعها في ثنايا لقلب.

المنحوتات من علامات الجمال في المدينة، تزخر بغداد بتماثيل لشعرائها وفنانيها وقصصها الشعبية، من المتنبي الى نازك الملائكة فالفرابي والكهرمانة و شهريار وشهرزاد، الذي انجزه النحات محمد غني حكمت ويبرز التمثال مشهدا من “الف ليلة وليلة” حيث شهريار جالسا منصتا وشهرزاد واقفة شامخة تحكي والتمثال الموجود في حدائق شارع أبو نواس من المزارات السياحية في المدينة.

من وحي “الف ليلة وليلة” نحت محمد غني حكمت “الكهرمانة” احدى شخصيات حكاية “علي بابا والأربعين لصا” ويصور التمثال البرنزي شخصية “مرجانة” تحمل الأربعين جرة مملوءة بالزيت الساخن لسكبها على اللصوص، و”مرجانة” جزء من ذاكرتنا الأدبية وتمثالها في غاية السحر يتوسط شارع سعدون وغني حكمت من اشهر نحاتي العراق اخر اعماله تمثال “انقاذ الثقافة العراقية” الموجود قرب منتزه الزهراء، و”الفانوس السحري” قبالة المسرح الوطني.

يقول احمد شوقي “للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق” ونصب الحرية في ساحة

التحرير من اشهر المزارات السياحية، نصب من ابداع النحات جواد سليم ارتفاع 28متر وطوله 50 متر وجسد جواد سليم ثورة الشعب العراقي ووحدته لاجل الحرية بعد ثورة 14جويلية 1958، في بغداد المنحوتات متحف مفتوح تعترضك أينما ذهبت وكانّها تخبر الزائر ان هنا ارض للثقافة من ملحمة جلجامش الى الان.

المقامات والمزارات الدينية بوابة أخرى لتاريخ البلاد

بغداد مدينة تدخلها بروح طاهرة، مدينة الروحانيات والمقدسات، في بغداد تنتشر المساجد والمقامات الدينية والمراقد كما حبات اللؤلؤ على جيد ملكة سومرية، “ادخلوها بسلام امنين” هي الجملة المكتوبة على كل الفضاءات الدينية من الخارج، زائر بغداد يلزمه سنوات ليكتشف كل المقامات والمساجد فبغداد ارض تلاقح الأديان والحضارات، وفي مدينة السلام تحضر الطمأنينة كلما قررت ان تزور أحد المعالم، يشدك اليه ويدعوك الى إتمام الجولة علّ الروح ترتاح قليلا من رحلة الارتباك والقلق.

أضواء تخطف القلب، سيارات مكتظة واناس بأعداد غفيرة يتسابقون للوصول الى المقام، الرحلة ستكون الى “الملجأ والحصن” فالنهار اربعاء وهو يوم الزيارة لمرقد الامام موسى الكاظم، في قلب المدينة تتلألئ قبتان ذهبيتان تدعوان المارة للدخول واكتشاف سحر التاريخ وعظمة مشاعر الخشوع الموجودة في المكان، العتبة الكاظمية المقدسة تبعد 5كيلومترات عن وسط مدينة بغداد، الكاظمية اخذت اسمها من المرقد، في العتبة الكاظمية مرقد الامام موسى الكاظم وحفيده محمد الجواد، الكاظمية مدينة دينية ومركز تجاري واقتصادي، بعد التفتيش والدخول توجد المحلات والفنادق ومطاعم للأكل الشعبي وأخرى مطاعم حديثة فالكاظمية فضاء للسياحة الدينية والتاريخية والمنطقة اخذت اسمها من المرقد وللإمام الكاظم حضوره في الادب والرواية العراقية، وله حضوره في قلوب مريديه الصادقين.

للمرقد رهبته، طاقة عجيبة توجد في المكان، القبتين مذهبتين مع انعكاس الضوء تبرزان وكأنهما الشمس والقمر يتهامسان عن اسرار المكان، لدخول المرقد تعاليم خاصة أولها إزالة كل وسائل الزينة، فالمكان يدخل بالروح لا الجسد، إذا أردت الإنصات لصوت القلب يهتف باسم الطمانينة فدع كل لوازم زينة الجسد في الخارج وادخلها حافيا، عاريا من الوجع نازعا عنك كل ادران الحياة اليومية.

في الداخل السجاجيد مفروشة كامل المساحة، كيلومترات من السجاد النظيف والاعمدة الرخامية المبهرة، الأبواب بنية اللون كبيرة الحجم، السقف مزخرف بزخارف فارسية وعراقية مذهلة، الثريات “الكريستال” تلألئ كما النجوم، هنا أينما وليت الوجه وجدت سورا قرآنية تزيد من الطمأنينة فما تبحث عنه يوجد هنا، توجد طمأنينة القلب، حول المرقد مئات النساء كل تعبر عن حاجتها، الأربعاء عادة يخصص لزيارة “قاضي الحاجات” لكل امرأة اسلوبها في الطلب ولكن جميعهن يؤمن ان الامام الكاظم سيستجيب، ملامح الايمان والصدق الكلي في الطلب يزيد من رهبة المكان، البعض يصلين واخريات ينجزن التمارين المنزلية لاطفالهنّ، لكل عوالمها وهمومها تأتي محمّلة وتخرج مطمئنة وخفيفة.

العتبة الكاظمية فضاء سياحي وديني، هنا تمتزج جمال العمارة بسحر التاريخ وتراث المدينة الضارب في القدم، فهنا يرقد “الترياق المجرب” كما يقول الامام الشافعي، في مرقد الامام الكاظم تنسى النفس واقعها، تهيم بين تلوينات الجمال، تتعلم الصبر والاجمل ان إحساس الطمأنينة يرسخ في القلب ويرافقه خارج المكان.

من الكاظمية الى الرصافة تحديدا منطقة باب الشيخ، هناك حيث الأسواق الشعبية وصخب المارة يصنع موسيقى مختلفة يوجد مرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني او الكيلاني كما يكتبه العراقيون، المرقد ينادي زواره بقبته البيضاء الناصعة البياض والفريدة وتعد تحفة معمارية فريدة لانها دون رقبة تحملها او أعمدة داخلية تسندها، والقبة الزرقاء مزخرفة بالأصفر وآيات قرآنية كتبت في شكل دائري تبرز للعيان من بعيد كتب باللون الأخضر “جامع ومرقد سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سرّه النوراني”، والمرقد مزار للصوفيين وطلاب العلم والباحثين عن طمأنينة القلب هربا من صخب الخارج.

باب نحاسي اللون يكون اول ما يجده الزائر زيّن بسيوف ونجوم صغيرة، في الداخل الساحة الخارجية بلاطها أبيض أما الجدران فجميعها بالحجارة بنية اللون، الأبواب الداخلية بعضها ازرق وأخرى حافظت على البنيّ الداكن، لون يشبه التراب اثناء البلل، في الساحة شيوخ وعجائز وأطفال من جنسيات مختلفة توافدوا لاكتشاف مرقد الشيخ الصوفي، المقام شيد عام 1543ميلادي على يد المعماري سنان في عهد السلطان سليمان القانوني واستمر التأهيل في عهد السلطان مراد الرابع، ويتميز المقام بمكتبة تضم الاف المخطوطات.

للشيخ عبد القادر أثره على الصوفيين ومريديه يأتون اليوم ليبحثوا عن بعض اسراره، اللون الفضي يزين المقام من الداخل، انعكاس الضوء على الزجاج يشكل لونا سماويا مبهرا، قراءة القرآن الكريم بصوت جهوري يزيد من رهبة المكان، النسوة يجلسن حاملات الكتاب الكريم وكل منهمكة في البحث عن ذاتها في ثنايا المقام، أسماء الله الحسنى كتبت لأكثر من مرة كامل الفضاء المستطيل الشكل، السقف مزخرف بأشكال ازهار فيها الأزرق والاحمر والاصفر ومنها تتدلى ثريات كبيرة الحجم مذهلة اللون.

 بضعة خطوات الى اليمين يوجد مرقد الشيخ عبد القادر، حوله نسوة يتمسحن بالمرقد واخريات يطلبن العون، في الداخل رائحة البخور تسكن القلب لا الانف، يتوقف الزمن للحظات، فقط رهبة المكان وجماله تسكن الذاكرة وتحفر بعيدا في خبايا الروح، بعض الكلمات للشيخ الكيلاني كتبت بخط جميل في السقف “بلاد الله ملكي تحت حكمي ووقتي قبل قبلي قد صفالي/ مريدي لا تخف واش فاني، عزوم قاتل عند القتال/ مريدي لا تخف الله ربّي عطاني رفعة/ مريدي همْ وطبْ واشطح وغنّي وافعل ما تشاء فالاسم عال”، السقف زين بالكريستال واشكال دائرية خطت فوقها آيات قرآنية  تتوسطها ثريا عملاقة، تنير المكان وتزيده بهاءً.

 الجدران زينت بالجبس وصنعت في شكل ورود، اما المرقد الذهبي اللون، أعلاه مذبّب مثلثات صغيرة كتب فيها أسماء الله الحسنى، فداخله أموال ورسائل كثيرة مكتوبة بخط اليد من المريدين، فالمرقد مساحة للتأمل في جمال التاريخ ودقة الإنجاز وجمالية الفضاء روحيا وعلميا ونفسيا، وبين الألوان وصوت القرآن وترتيلات المريدين تسافر الروح تغادر مكانها وتلتحم هناك بعيدا بطمأنينة كما الماء الزلال.

جميلة هي المدينة بقبابها الزرقاء ومآذنها العالية، في بغداد اجتمعت كل الطوائف والمذاهب، في احدى الازقة الفرعية لشارع الرشيد يوجد مقام الامام ابن حنبل، وفي الجهة الأخرى من دجلة وقبالة الكاظمية توجد منطقة الاعظمية اين مرقد ومقام الامام أبو حنيفة، والمنطقة اخذت اسمها من جامع الامام الأعظم ابي حنيفة النعمان، المقام والجامع اصغر حجما من بقية المعالم، مساحة للصلاة، هدوء كليّ في المكان، ثم مرقد الامام بزخرفة جميلة، المرقد كغيره من الفضاءات يتوشى بنقوش يدوية جميلة وسقف تتدلى منه الثريات الكريستال الساحرة، والايات القرآنية تبعث في النفس الأمان، رائحة البخور مع بعض اشعة الشمس شكلت مشهدية سحرت الروح.

بغداد مدينة السلام، لبغداد الف باب وحكاية، ونحن نغادر بغداد وقبل وداعها نزور منطقة الكرخ تحديدا مدينة السلام اين دفنت بقايا العاشق، الذي سار الى الموت مبتسما، صارخا “انا الحق” العاشق الذي اهدى جسده للحرق والموت، العاشق الذي لم يوجعه رجم الحجارة وقابلها بالضحك لكنه بكى حين رماه احد مريديه وتلاميذه بوردة حمراء، نزور ما بقي من المكان الذي حرق فيه الحسين بن منصور الحلاج، المرقد الذي لم تتجاوز مساحته150متر مربع لكنّه اكثر اتساعا من وطن، هنا الحلاج، ضحك، تحدى الدم ونزف واستقبل الموت بابتسامة، الحلاج الذي يقول:

والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي

ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي.

أَحَبَّكَ البعض مني فقد ذهبت بكلّي يا كلّ كلّي فكنْ لي إنْ لم تكن لي فمن لي

ها اننا بغداد محملين بعشق الحلاج وسرور الروح يسكننا بعد جولة في مدينة تسحر زائرها وتسقيه من كأس الحب.

منتدى المسرح التجريبي حين تزهر أحلام الشباب فنّا

المسرح مساحة للحرية والتجريب، قرب بدالة السنك واخر شارع الرشيد يقف البيت شامخا معاندا الطبيعة والحروب فاتحا جدرانه لاحلام الشباب، مانحا إياهم الفرصة لممارسة المسرح وحضور الورشات التدريبية وتحويل أفكارهم الى حقيقة، “منتدى المسرح التجريبي” بخط ازرق كتب الاسم معاندا الشمس، يطل المنتدى من الجهة الخلفية على نهر دجلة وكانه يشاركه يوميا حكايات الشباب وصناع الجمال في المنتدى.

منتدى المسرح التجريبي في فضائه الحالي (تغير مقر المنتدى لمرتين والمكان الحالي بدأ استغلاله منذ عام 2008) هو فضاء للتجريب، محضنة لافكار الشباب، بيت بغدادي تجاوز المائة وخمسين عاما، البيت الأصلي كان ملكا لعبد الكريم النقيب اول رئيس حكومة للعراق الحديث، والنخلات الثلاثة في الحديقة شاهدات على تاريخية المكان.

منتدى المسرح التجريبي بيت بغدادي تركت السنين اثارها عليه، الحجارة الصفراء اللون وبابه البنيّ الضخم يكونان اول بوابة للقاء، يمين الزائر مقهى ثقافي صغير اسمه “جاي وكعك” المقهى فضاء للضيافة ولاجتماع أبناء المنتدى وضيوفه، المكان مغناطيس للجمال والديكور البغدادي التراثي مع لوحات لفنانين تشكيليين وحكايات من البلد ومكتبة صغيرة تزخر بالاصدارات المسرحية، المقهى الثقافي علامة أخرى على التمسك بالهوية العراقية في الموسيقى والضيافة (الشاي والكعك التقليديين) المقدم لضيوف المكان من مسرحيين استغلوا قاعات المنتدى للتدرب اثناء مهرجان بغداد الدولي للمسرح  فالفريقين الفلسطيني والمغربي كان المنتدى الحاضنة لحصصهم التدريبية قبل العرض، المقهى الثقافي أولى الممرات لاكتشاف جمال المكان ومدى سحره.

فممرّ طويل ثمّ وسط البيت المربع الشكل، البيت يتكون من طابقين وجميعها غرف للتدريبات، الجزء السفلي يستعمل للعروض عادة، السقف مفتوحا صيفا ومغطى في الشتاء لضمان جودة العرض، فدرج دائري الشكل وبعد 22درجة تقريبا يكون الزائر في الجزء العلوي اين توزعت القاعات لتكون  فضاءات ليكتب الشباب أفكارهم ويحولونها الى اعمال مسرحية،  يحتضن المنتدى التجارب الشبابية ويشرف على نشر ثقافة الحياة فيه مجموعة من المسرحيين اللذين يطوّعون الازمة ويصنعون منها منافذ للحلم، هشام جواد وبهاء خيون وفكرت سالم وحيدر جمعة لكل منهم طريقته في التعامل مع المسرح ويشتركون في الدفاع عن حق الشباب في التجريب والتدرب لتبعث الفكرة من الورق الى الركح، المنتدى يتبع وزارة الثقافة والسياحة الاثار يستحق المزيد من العناية والدعم المادي لانه بوابة للتاريخ وجزء من العمارة البغدادية وفضاء ليمارس الشباب المسرح تمثيلا وكتابة وابداعا.

بغداد مدينة تسكن الروح، بغداد حبيبة وشامة على صفحات الخد، بغداد ساحرة ليلا، مدينة لا تنام تستقبل عشاقها، تمنحهم مساحات الأمان، تسكب في قلوبهم الوله بها ثم تسمح لهم بالمغادرة محمّلين بالحنين، لبغداد وقع قطرات المدى على الورود المتعطشة للحياة، ويمكن ان نودع بغداد بقول احمد شوقي ” انت في يقظتي حلم خافقي سرمدا”.

الكلمات المفاتيح: بغداد – مسرح – فنون – حضارة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Check Also

مائوية الموسيقار صالح المهدي ضمن عين المحبة بمدينة الثقافة

بمبادرة من وزارة الشؤون الثقافية، ينظّم مسرح أوبرا تونس بالتعاون مع المؤسسة التونسية لحقوق…