Home أخبار الساعة مسرحية “تسعة” لمعز القديري.. تجرّأ على انسانيتك ومارسها فالخلود كذبة

مسرحية “تسعة” لمعز القديري.. تجرّأ على انسانيتك ومارسها فالخلود كذبة

مفيدة خليل

تخيل انك تعيش ساعتك الاخيرة، وحدك امام ماضيك وواقعك، فقط امام ساعة واحدة وتنطلق الى عالم اخر؟ أي رهبة ستعيشها وكيف ستعيش لحظات الخوف الاخيرة، هل ستقبل على الموت بفرحة؟ قطعا لا فالكل يرهب الموت اسما وسردية، فلم نخاف الموت؟ وهل نخاف الموت؟ ام العقاب؟ ام الله؟ ام نخاف ان نعرف قبحنا في مرآة الحقيقة؟ تخيل للحظات انك ستموت بعد قليل؟ ما اخر شيء تودّ فعله؟ من هذه الأسئلة انبثقت مجموعة من الأفكار حوّلها هيثم المومني الى نصّ مسرحي بعث فيه معز القديري الحياة تحت اسم “تسعة”.

مسرحية “تسعة” اخراج معز القديري وتمثيل هيثم المومني ومروان الميساوي ومريم بن حميدة ومساعد مخرج فاروق الزغلامي وتصميم الانارة صبري العتروس ويزيد بلهادي وموسيقى دون باك وملابس يسرى مزوغي وتنفيذ ديكور يونس واحمد العجمي وجرافيك نور بودقة مساعدة الإنتاج غادة مراد وإنتاج شركة فنون للتوزيع الريو.

المسرح جرأة على التجريب والتجديد

عالم بين العالمين، مكان قصي يتأرجح بين الدنيا والفناء، بين الهنا واخر الدنيا، فضاء ممتد وضيق في الوقت ذاته، أوسع من المدى واضيق من القبر، ضيق المكان يصلنا عبر حالات اختناق التي تعيشها الشخصية، اختناق يعيشه المتفرج أيضا اثناء محاولته اكتشاف فضاء اللعب، اختار المخرج لعمله تجريب جماليات الظلام، فالظلمة أحيانا اشد نورا من الضوء ولمعز القديري القدرة على التلاعب بالفضاء والمتفرج وشدّ انتباهه وتحفيز السؤال دائما، واعتمد على ديكور بسيط، صندوق خشبي يستعمل ككرسي أحيانا اقصى الركح ومايكروفون يسارا ليكون الصوت الداخلي للشخصيات فالمتممات الركحية جزء من جمالية بصرية صنعها القديري صحبة فريق العمل.

ثلاث شخصيات تتحرك في الفضاء، ثلاثتها دون اسم، رجلين وامرأة، ثلاثتهم في الظلام، احساسهم بوقع النص وطريقة اللعب والتعامل مع الفضاء وترك المخرج للجمهور الحرية في تشكيل ملامح الشخصيات كما يشاء، للرقم ثلاثة رمزيته فهو لم يختر من العبث، ثلاثة رقم مقدس في الديانات القديمة، الثلاثة يصنعون الحكاية، يتارجحون بين الهنا والهناك، يدفعونك لتعيش مشاعر الخوف وطرح السؤال الابدي، لماذا نخاف الموت؟ لماذا يخاف الانسان شيئا لا يعرفه وهو ما تقوله الشخصية “لماذا تخافني؟” فهل الانسان يخاف النهاية؟ ام رغبته في الخلود تدفعه دائما للتمسك بالحياة بكل المها وحروبها ودمائها.

الخوف والرغبة في التحرر هما التيمة الفنية الأبرز في مسرحية “تسعة”، الخوف تجسده الشخصية البشرية الراغبة في الخروج “اريد الصراخ، اين انا” الشخصية قدمها الممثل هيثم المومني كاتب النص، ممثل تقمص وجع الشخصية وتماهى مع افكارها، نقل للجمهور بصدق مشاعر الخوف وحالات الاختناق، ممثل يلعب بتلقائية وصدقه في الأداء استطاع ايصاله للمتلقي، هيثم مومني بدا جديا ومتجانسا مع الشخصية الجديدة بعد نجاحه في مسرحية “11/14” نجده في ملامح أخرى وسيرورة فنية تنخرط في المسرح النفسي والفلسفي الذي يتشاركه مع القديري.

اما تيمة التحرر فيجسدها نظيره او ملاكه في المعتقدات الدينية، هذا الملاك المرتبط بالبشري، مجبر على البقاء معه لانّ الانسان لا يرغب في الانطلاق الى العالم الاخر اين سيتحرر الملاك “بسبب افعالك انا هنا، والملائكة هناك في عالم اخر وابدع مروان الميساوي في معانقة الشخصية المربكة والهادئة في الوقت ذاته، مروان الميساوي الممثل المتلون رغم عدم وضوح وجهه جيدا بسبب الاختيارات الجمالية الا انّ ملامح الصدق في الأداء يمكن ملامستها وكانه يقدم الشخصية تحت ضوء الشمس، الميساوي ممثل حقيقي وكلما لعب نجح وتجربته في “11/14” تختلف كثيرا عن التجربة الجديدة في مسرحية “تسعة” فلكل شخصية ابعادها النفسية والفكرية والميساوي ممثل واع بقيمة الحركة والصوت اثناء الأداء.

هما متناصان، متنافران، واحد متمسك بواقعه رغم ظلمته، يخاف فكرة الفناء، يريد فقط الصراخ والعودة، والثاني يريد الانعتاق من قيود البشرية، بينهما شخصية ثالثة، غامضة، ومربكة، تبدو مرعبة للأول وجّد محببة للثاني، الشخصية الثالثة هي الموت،  وقدمتها الممثلة مريم بن حميدة بكل عنفوانها على الخشبة وقدرتها على التحكم في مسارات العمل.

تسعة هو اسم المسرحية، منذ العنوان يجبر القديري المتفرج على استعمال العقل والتفكير في دلالات العنوان، فهو العتبة الأولى لقراءة العمل، الرقم “9”تسعة عادة عنوان للاكتمال والروحانية لدى البهائيين ورمز لنهاية دورة في الهندوسية، من مفهوم النهاية ولدت فكرة المسرحية فالشخصية تعيش لحظات النهاية، ساعتها الاخيرة وربما دقائقها، تقف عارية امام ذاتها منزوعة من العقل يسكنها فقط الخوف، تحاول الصراخ فتعجز “نحب نعيط” تقولها بحشرجة، حد تلاشي الصوت، للرقم تسعة إشارة الى الشرّ فافعى الهيدرا كانت بتسعة رؤوس والشخصية في المسرحية ترمز الى بشاعة البشر واشرارهم التي لا تنتهي منذ جريمة قابيل وهابيل الى اللحظة الراهنة.

مسرحية “تسعة” تعرية لقبح البشر،استعمال واع للرقم تسعة بدلالاته الخيرة والشريرة تماما كتركيبة النفس البشرية التي خلقت لتخطئ وتفكّر، فلا وجود لقيمة الخير المطلقة ولا الشرّ النهائي، جميعها نسبية تماما كالارقام.

المسرح سؤال عن قيمة العقل.

المسرح ترميز، على الرمزية بنى المخرج عمله وصنع الصور المتعددة التي سترسخ في ذاكرة المتفرج، من الظلمة خلق الانسان واليها سيعود، فبين ظلمة الرحم وظلمة القبر سيرورة للبشر يصنع فيها حياته ويلونها كما يشاء، الظلمة لن تكون حاجزا بل ستكون وسيلة لقراءة الحكاية والتطلع اكثر الى بواطن الشخصيات وفهم حقيقة افكارهم ومشاعرهم عبر حاسة السمع لا البصر، اعتمد القديري على ثنائيتي الظلمة والنور مساحة للعب والتجريب مع سيطرة الظلام في اطار الانسجام بين السينوغرافيا والنص المطروح على الخشبة، وكانت الموسيقى اجمل تعبيرة عما تخفيه كل شخصية من خلالها عرف المتفرج دلالات النص ودور كل شخصية في صناعة تلك الملحمة الفرجوية..

الظلمة سيدة الفعل، الشخصيات تراها تتحرك، لكن دون معرفة تفاصيل الوجه أو انعكاس الحكاية عليها، يترك المخرج الجمهور مطلق الحرية للتأويل واستقراء دواخل الشخصية، شخصيات متوترة، مرتبكة، حركاتها متسارعة تماما كمن يبحث عن مخرج ورغم كثافة الدخان وسيطرة الأسود تكون الصورة واضحة المعالم، تدفع بالمتلقي لاستعمال عقله وخياله وعدم الاكتفاء بما سيقدم على الخشبة.

صنع السينوغراف بالظلمة امكنة وازمنة مختلفة، في الظلام تلعب الشخصيات وكانها تهرب من حقيقتها رغم رغبتها الكلية في العودة الى النور والحياة، وبين المناقشات يضع المخرج شخصياته، يبعث فيها الحياة ويبدع في تحريكها داخل فضاءه المسرحي المتخيل.

هل الانسان حر؟ واذا كان حرا لماذا يخاف الموت؟ لماذا يخاف جرأته على استعمال العقل والافراط في التفكير وقد ميزه خالقه عن كل المخلوقات؟ في العمل تكررت لاكثر من مرة الاية 30 من سورة البقرة التي يقول فيها الخالق 

“إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ، وهذا الصراع بين الانسان والملائكة نجده على الخشبة، فالملاك يلوم البشري بجملة “بسبب افعالك نحن هنا، لو كنت أفضل لكنت هناك مع بقية الملائكة”، فيخبره الانسان انه لم يفعل شيئا فقط يريد الصراخ.

 في المسرحية يطرح السؤال عن قيمة العقل، فكل الديانات السماوية وغيرها تؤكد تميز الانسان بعقله، في اليهودية مثلا جاء في سفر التكوين ” نعمل الانسان على صورتنا، وخلق الانسان على صورته” أي انه جميل ومفكر، والنصوص الهندوسية ” الالهة خلقت الانسان ليكون خادم النظام الكوني ولكنه ايضا قادر على كسره، ولهذا خلق بعقل يميز الخير والشر”, فالانسان مفكر وافضل من الملائكة ومتميز عنها ولكن خوفه الكلي من الموت غير مبرر فقط لأنه نسي العقل واضاع طريق الإنسانية والخير ورمى بقلبه في سواد الشر والحرب والدم..

الانسانية بمفهومها القيمي، والمراجعات الذاتية التي يعيشها الانسان الواعي ووجع الظلمة وسوداوية اليومي جميعها اشكاليات تسكن كاتب النص فحاول بثها في الشخصيات لتكون بتلك الحدية والغرابة، والمسرحية تعري الذات البشرية وتكشف قبحها ومحاولاتها المتكررة للهروب من الحقيقة، هذا البشري بمجرد ان اعترف بافعاله تحرّر من كل قيد، حين اعترف بأخطائه تمكّن من الصراخ، صرخة النهاية او الولادة من جديد، تلك الصرخة الأخيرة رجّت القاعة ومنها انبثق السؤّال هل فعلا نحن البشر نمارس انسانيتنا؟

“تسعة” عمل يحفّز على طرح السؤال، مسرحية تثقل المتلقي تشرع له نوافذ الذاكرة وابعاد لا محدودة من الجراة والوقوف عاريا امام مرآة الذات، هي تجربة أخرى في مسار المسرح النفسي والفلسفي الذي يعمل عليه معز القديري، باحثا، مسائلا وقاعه ومقدما طرحا فكريا ومسرحيا مختلفا.

مفيدة خليل

الكلمات المفاتيح: مسرحية تسعة – معز القديري – مسرح – تونس

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Check Also

مائوية الموسيقار صالح المهدي ضمن عين المحبة بمدينة الثقافة

بمبادرة من وزارة الشؤون الثقافية، ينظّم مسرح أوبرا تونس بالتعاون مع المؤسسة التونسية لحقوق…