قراءة في أَنْسَنة العرائس من خلال المسرح وتوظيف رمزية العمى لتقديمه كبرهان قاطع على أن العمى عمى البصيرة وليس البصر من خلال جدل فلسفي اجتماعي عميق
“ما يراوش Blackout “دراماتورجيا و إخراج منير العرقي هو عمل مسرحي عرائسي موجه للشباب و الكهول جاء نتيجة مختبر العرائسيين الذي امتد منذ جوان 2022 احتضنه و أنتجه المركز الوطني لفن العرائس.

كانت الانطلاقة باقتباس نص مسرحي عالمي كُتب في صميم تجربة المسرح الرمزي الذهني الا وهي مسرحية “العميان ” للكاتب البلجيكي “موريس ماترلينك” الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1911. لكن منير العرقي رغم محافظته على “الخرافة” الأصلية أراد أن يجعل من هذا الاقتباس مختبر بحث و تجديد بإدخال العرائس في المشهدية المسرحية التونسية و تونسته من خلال استعمال اللهجة العامية كلغة منطوقة.
تنطلق المسرحية في فضاء خال تتناثر فيه الأوراق و على أحد جوانب خشبة المسرح جذع شجرة ميّت مع رسم لأشجار باسقة فوق ستارة سوداء تظهر من خلال الإضاءة.
قام هذا الفضاء البارد باحتواء العرائس الذين دخلوا المكان على وقع عِصيَّهم البِيض.
هذا الدخول كان مرافقا بإضاءة خافتة يبزر فيها اللون الابيض للعِصيّ و موسيقى تدّل على الهلع و الريبة.
ما يُلفت الانتباه في هذا المشهد هو صوت العِصيّ و هي تُضرب على الارض، كان الإيقاع مدروسا و متناغما مع حركة العرائس أو العميان. و هذا إن دلّ على شئ فهو يدل على مدى تحكم المحرّك في عروسته مع قدرته على ضبط إيقاع العصا في تناغم تامّ مع المجموعة.
أَنْسَنَ منير العرقي العرائس قصد فكّ أول الشفرات مع المتفرج لكي يعرف أنه أمام عميان تائهين حدّ التناسق .
ابتدأ القلق مع دخولهم من خلال كلمات من هنا و هناك و تسبيحات عجوز تدّل على الخوف و الضياع، فهم :مايراوش” فقدوا راعيهم أو مرشدهم الذي جاء بهم إلى هذا المكان ثم تركهم في وحشة لا يملكون إلا حاسة اللمس و الشم و السمع؛ حاسة السمع التي يستعملونها لفكّ رموز ما يصلهم من أصوات.
هذه الوضعية جعلت “اللي مايراوش” يطرحون أسئلة وجودية فلسفية عميقة مع ذواتهم و مع المجموعة عن الاستقلالية و الحرية و الوعي بالذات، أسئلة تصبّ نحو اشكالية كونية الا وهي إلى أي مدى يشارك الانسان في وضعية الخنوع و الخضوع التي يعيشها؟
في إنتظار ظهور المرشد الذي سيُعيدهم ل”التكيّة” على حدّ تعبير إحدى الشخصيات، تحدّث كل منهم عن تجربته مع العمى، فنجد الأعمى منذ الولادة و نجد الأعمش و نجد من أُصيب بالعمى بمرّ الزمن، و منهم من فقد بصره بالرشّ في إشارة واضحة لحادثة الرش بسليانة.
جميع هؤلاء العميان منهم من هو راض بفقدانه للبصر بل و يجد متعته و راحته فيه مقارنة بأصحاب البصر و منهم من يتمنى ان يرى النور..
و منهم من هو ساخط “منيش مسامح” هنا نتحدث عن من فقد بصره بالرشّ.
ما يُحسب لمنير العرقي هو أنه حافظ على الحكاية الأصلية مع تنزيلها على السياق التونسي الراهن المرتبط لا محالة بالماضي القريب.
طرح سياسي اقتصادي اجتماعي إنساني يظهر من خلال المنطوق و اللامنطوق في حوارات العميان.
هل الخضوع و الخنوع مسؤولية المرشد و سلطته اما هي مسؤولية مشتركة مع من استسلم و رضخ لهذه الوضعية؟
هل العمى عمى البصر اما احيانا يفقد الانسان بجهله و عدم وعيه و احترامه لذاته و انسانيته بصيرته؟
فظلام المكان و وحشته هو ليس إلا ظلام فكرهم و جهلهم الذي جعلهم في حالة تبعيّة و خوف في غياب الراعي أو صاحب السلطة في هذا المكان.
فحالة الخوف و الهلع هي حالة خوف من غياب المرجع بالنظر و الحاكم بأمره لا خوفا من الموت أو من خطر يمكن أن يتأتى من مكان بارد و خال يجهلونه تملأه أصوات الرياح و الامواج…
فخوفهم من قطع القيود اكبر من خوفهم من فقدان الحياة.
و يتأكد عمى البصيرة من خلال العاصفة و نباح الكلب اللذان أعطيا للمكان بعدا آخر، الآن و هنا يكتشفون العميان موت مرشدهم و انه لم يغادر المكان بل انه بينهم و لكن دون أن ينكسر القيد.
فويل للانسان حين يرتهن مصيره لمرشد حتى ان موته لا يُرجع له بصيرته، فالكلب ارشدهم لذلك و كأنها رسالة تنويرية و لكن يبقى الحال على ماهو عليه؛ حالة تبعية لكلب حتى يأتي بكاء رضيع خُلق حديثا يكون الأمل لارشادهم لطريق النجاة.
هنا رسالة ضمنية يُرسلها المخرج ألا وهي الشعوب من تَصنع حكامها و تُضخمهم حتى و ان كانوا رُضّع سياسيا و هي من تُعطيهم السلاسل التي يُقادون منها…
“مايراوش” رسالة موجهة إلى الأشخاص (مايراوش و ما يحبوش يراوو) تطرح تساؤلات هامة راهنة تخصّ الوضع التونسي لا محالة بالأساس، تساؤلات صادقة موجعة احيانا و لكن ضرورية.
و كان لمنير العرقي في تخفيف وطأة عمق التساؤلات تعاطي ذكي و ذلك بأخذ النص احيانا إلى منحى فيه من السخرية و الضحك دون المساس من جدية القضايا المطروحة و جمالية العرض في جميع ابعاده و عناصره.
▪︎ كمياء ساحرة بين العروسة الماريونات و الممثل المحرّك
يجدر التنويه بوجود كمياء ساحرة بين العرائس و الممثلين و الممثلات، فتنسى احيانا انك امام عرض مسرحي يعتمد على العرائس من شدّة التماهي بين العروسة و المحرّك و قدرة هذا الأخير على تحريكها و بعث الاحساس المطلوب في اللحظة ذاتها.
بالإضافة إلى ذلك ، كان واضحا للعموم تمكنّ الممثلين من أداوتهم في المراوحة احيانا بين العروسة الشخصية و الممثل الذي يُظهر وجهه في لحظة تجلّي و جدال معها في سلاسة واضحة. نفس السلاسة ظهرت في مشهد الاغتصاب حين تصبح العروسة المغتصب و الممثلة التي تُظهر وجهها الضحية…
▪︎ الإضاءة و الموسيقى زوايا الحجر للعرض و في تماهي تام مع الطرح
فيما يتعلق بالإضاءة (تصميم معز العبيدي و محمد منير العرقي ) فكانت خافتة مناسبة لغابة موحشة و الجو العام و ما يسوده من خوف و قلق و حيرة.
هذه الإضاءة الخافتة عزّزت تركيز المشاهد على ما يريد المخرج ابرازه أو ايصاله الآن و هنا و مع هذه العروسة بالذات أو مجموعة العرائس المتواجده في ركن من أركان خشبة المسرح.
تماهت الإضاءة التي تراوحت بين الأزرق بدرجات مختلفة و الوردي و الارجواني الخافت و الاحمر مع الاحاسيس المنبعثة من العرائس التي كان المحرك في تناغم حركي تام مع الإضاءة و الموسيقى.
اما الموسيقى فقد اثثت العرض من خلال دعم و تأكيد المشاعر النابعة عن محرّك العروسة من خوف أو قلق أو حزن…
فكانت من اهم العناصر السينوغرافية و مكملّة فعالة لبقية العناصر ديكورا و اضاءة لخلق جو قاتم أسود يسوده الحزن و القلق و الحيرة و التفكير من خلال الأصوات المدروسة المنبعثة كالرياح و الامواج و العويل…
▪︎ الدّقة في تصميم العرائس نَقل “مايرواش” إلى مستوى أعلى جماليا
يجدر التنويه بمجهود مصمّم العرائس و منفّذ صُنعها و المكلّف بالنحت على جماليتها و دقة التفاصيل في الملامح و التجاعيد و سهولة تحريكها خاصة في التحركات الدقيقة في وضعيات الثني في مناطق معينة من الجسم و النزول بها على الارض في مشهد الاغتصاب مثلا..
فهذه التفاصيل نقلت المسرحية جماليا من مكان لاخر…
هذه القراءة لمسرحية مايراوش Blackout التي واكبنا عَرْضَها ضمن فعاليات مهرجان الحمامات الدولى في دورته 57 بتاريخ 18 جويلية 2023 تُنشر اليوم 4 سبتمبر 2023 بعد عرض المسرحية ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثلاثين في مسرح الجمهورية أمام لجنة التحكيم الأحد 3 سبتمبر 2023.
ما يراوش Blackout عمل مسرحي عرائسي ناتج عن مختبر بحث و تجريب لا يمكن الا ان يُعرض في مثل هذا المهرجان الذي يُعتبر من أهم المهرجانات التي تُقدّم العروض المسرحية التجريبية.
فتجربة “مايراوش Blackout ” تكمن في إبراز مدى قدرة العرائس على تشكيل و تأثيث المشهد المسرحي الموجه للشباب و الكهول و صناعة الفرجة من خلال طرح عميق يلمس جوهر المشاكل الراهنة.
هذه التجربة أخرجت فن العرائس من دائرة توجيهها حصريا إلى الأطفال و اثبتت أن المسرح فن حي لا يموت بالتجربة و التطوير و أنّ الأمل مازال على قيد الحياة في مسرح تونسي متطور خارج منطقة الرفاهية و الأمان.
مسرح – قراءات – تحليل – عروض – مايراوش – منير العرقي – فن العرائس – تونس
المهرجان الدولي للفيلم الروائي والوثائقي القصير بجربة يختتم دورته العاشرة
اختتمت الدورة العاشرة للمهرجان الدولي للفيلم الروائي والوثائقي القصير بجربة الثلاثاء 19 نو…